ينقضي شهر رمضان المبارك كما تنطوي كل أيام الشهور والأعوام, لكن هذا الشهر مدرسة للتعلم وفسحة للتأمل ومن ذلك جماعية الشعور في اطار فريضة الصيام. ولا بد أن يعمق هذا الشهر على المستوى الفردي لدى كل مؤمن التعاطف مع كل الجائعين على مدى حياتهم وعلى المستوى الجماعي لهذا العام فأن الموت جوعا لملايين من اخواننا في الصومال يفرض على المسلمين أن يؤدوا لفريضة وحكمة الصوم حقها, وكذلك لا بد أن نتألم لبؤس الأحوال في ليبيا واليمن وسوريا في ظل انفجار العنف الدموي والمأساوي.
ينقضي رمضان هذا العام ويظل السؤال الذي يتكرر كل عام هو: هل حققنا كافراد وكمجتمعات الغاية السامية التي شرع رمضان من أجلها؟، وهي ان نغير ما بأنفسنا او بعض ما بأنفسنا من أنانيات وزيف وتكالب على الحياة؟ وهل هدف النية الخالصة التي يفترض ان يكون رمضان قد صقلها قد تحققت بما يجلب صلاح النفس وصلاح المجتمع الغارق بالمظاهر والشكليات والزيف والرياء؟ وهو ما جاءت كافة الاديان لاصلاحه وتغييره. ويتوقف الاستاذ زين العابد الركابي عند هذه الظاهرة، حيث جاءت كل الاديان لصقل النفس والانسان على الايثار والاخلاص.
تبا لكم أيها المراؤون، يا من تهتمون بالقشور ثم تتركون ما هو اعظم من ذلك من الشريعة والاحكام والرحمة والايمان.. انكم تنظفون ظاهر الكأس وتتركون باطنها متسخا.. انكم كالقبور المجصصة ظاهرها جميل وباطنها عظام نخرة ، المسيح عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
آفة التدين ومقصلته وممحقته (فقدان الطهر الداخلي)، فقدان (الاخلاص): ان يتحول التدين الى مهرجان من الالفاظ والطقوس والمظاهر والاشكال: ليس له جوهر، ولا حقيقة تعمر القلب والضمير عمرانا يسطع بالضياء، ويتأرج بالعطر الفواح.
مثلا واجه نبيا الله موسى وعيسى عليهما السلام هذه المعضلة عندما صار التدين في بني اسرائيل: صورة ظاهرة بلا عمق صدوق، او صار (رياء) ممعنا في المظهرية والشكلية: يغطي باطنا معتما، ونية فاسدة، وخراباً عاماً في الضمير والوجدان.. ولئن قرأنا قبل قليل: النقد المرير الذي وجهه السيد المسيح الى هذه المظهرية الخادعة الكاذبة، فان محمد بن الحسين الآجري اورد (في اخلاق العلماء) نصا من العهد القديم -فيما يبدو – وجهه الله -جل ثناؤه- الى فئة من احبار اليهود.. ومما ورد في هذا النص: تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، تلبسون جلود الضأن، وتخفون قلوب الذئاب، وتتقون القذا من شرابكم، وتبتلعون امثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس فتجعلونه امثال الجبال، تطيلون صلاة لا روح فيها، وتبيضون الثياب في الظاهر.
والمسلمون -وان عصم نص دينهم من التحريف-: ليسوا معصومين من هذه الآفات الماحقة للتدين -مهما التمعت ألفاظه ومظاهره- بل الواقع يقول: ان جوائح التدين هذه قد اجتاحتهم كما اجتاحت الذين من قبلهم.
ولحكمة عليا -ومطردة-: انتظم الاسلام (منهجاً كاملا) يتوحى – بدأب وحرارة وتكثيف ووضوح-: نقض (المظهرية الريائية) التي تغلف معنى التدين في النفس والحياة.
وما دام رمضان العظيم لا يبرح يظلنا، فاننا نستمد منه برهانا قويا مبنيا على مقاصد الاسلام في مطاردة المظهرية والشكلية والصورية في التدين اي مطاردة (الرياء): بالتعبير الديني.
نلتقي في هذا البرهان بحديثين أضلين في الصيام:
أ – قول النبي صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في ان يدع طعامه وشرابه.. هذا حديث جليل يتخطى بنا (المظهرية) الى الجوهر والعمق.. فالجوهر -ها هنا- هو (الرقي والاخلاقي) المتمثل في الترفع القولي والفعلي عن الزور الذي هو -في مفهوم كبير من مفهوماته- تزوير النية والقول والعمل والفكر والحياة بوجه عام) يديه ان الحديث لا يستخف بالامساك المادي عن الطعام والشراب، ولكنه يربط هذا الامساك والفطم بثمرته الجميلة، ومقصده الأسمى وهو: استواء اللسان والسلوك على الطهر والحق والنور والنبل.. وفي الحديث معنى آخر: ندي رضي بهي وهو: ان الله سبحانه (غني) عن عباده العباد، وانما شرع العبادات لـ(نفع) الناس والارتقاء بذواتهم.. ومن أوضأ وجوه هذا النفع: ان يزكي الصائم نفسه: بالتخلي عن الزور -في صوره كافة- وان يتسامى دوما بلسانه: معنى ولفظاً:
ب – قول النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له الا الصيام فانه لي وأنا اجزي به.. ومن دلالات هذا الحديث ومضامينه العظمى: ان الصيام (سر) بين الصائم وربه: تقدس في علاه.. وهذا السر الخاص هو الذي جعل (جزاء) الصوم، فيضا مطلقا من عطاء الله للصائم.. وحقيقة ذلك -والله اعلم- ان فرص (الاخلاص) إوفر وأوفى في الصيام.. وان الصيام -من ثم- أبعد عن الرياء والمظهرية، ولذلك نسبه الله عز وجل لنفسه المقدسة -باستثناء موح بالخصوصية-: الا الصيام فانه لي.
ومنهج نقض المظهرية والرياء: اعم من ان ينحصر في مقصد الاخلاص والتجرد في الصيام ، اذ هو منهج تسنده وتؤصله عشرات الدلالة والبراهين:
اولا: في القرآن:
1- الايات القرآنية المؤسسة لحقيقة الاخلاص، الجاعلة الدين كله اخلاصا لله:
أ- الا لله الدين الخالص.
ب- قل الله اعبد مخلصا له ديني.
ج- فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا.. والاخلاص والرياء نقيضان لا يجتمعان.
2- الايات القرآنية الناقضة للرياء ، المحذرة من ان يتسبب في بطلان الاعمال.
أ- قال العلماء: ان الرياء يكتنف الصلاة فيبطلها: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون ويمنعون الماعون.
ب- وقالوا: ان الرياء يتلبس بالصدقات فيبطلها: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر.
ج- (الرياء) من خصائص المنافقين: يراءون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا.. ولذلك كانت توبتهم مشروطة بالتطهر من الرياء والتزكي بالاخلاص: الا الذين تابوا واصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين.