زاخرٌ تراثنا بالحديث عن الحماقة ومعانيها وأنواعها..
فقد قال ابن الأعرابي: الحماقة مأخوذة من حمقت السوق إذا كسدت ، فكأنه كاسد العقل والرأي فلا يشاور ولا يلتفت إليه في أمر حرب. وقال أبو بكر المكارم: إنما سميت البقلة الحمقاء لأنها تنبت في سبيل الماء وطريق الإبل. وقال ابن الأعرابي أيضا: وبها سمي الرجل أحمق لأنه لا يميز كلامه من رعونته.
وقد تحدث التراث العربي عن الفرق بين الحماقة والجنون، الذي لا يظهر المقصود به إلا بكشف المعنى. فقيل: معنى الحمق والتغفيل هو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود ، بخلاف الجنون فإنه عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعاً . فالأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد ورويته في الطريق الوصول إلى الغرض غير صحيحة، والمجنون أصل إشارته فاسد فهو يختار ما لا يختار. وقد ذُكر عن بعض المغفلين: أن طائراً طار من أمير فأمر أن يغلق باب المدينة! فمقصود هذا الرجل حفظ الطائر.
وقد رأى البعض أن الحمق غريزة، فقد ذُكر: عن إبي إسحاق قال: إذا بلغك أن غنياً افتقر فصدق وإذ بلغك أن فقيراً استغنى فصدق وإذا بلغك أن حياً مات فصدق وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلاً فلا تصدق. وعن أبي يوسف القاضي قال : ثلاثٌ : صدِّق باثنتين ، ولا تصدِّق بواحدة … إن قيل لك إن رجلاً كان معك فتوارى خلف حائط فمات فصدق، وإن قيل لك إن رجلاً فقيراً خرج إلى بلد فاستفاد مالاً فصدق، وإن قيل لك إن أحمق خرج إلى بلد فاستفاد عقلاً فلا تصدق.
وعن الأوزاعي إنه قال: بلغني أنه قيل لعيسى ابن مريم عليه السلام: يا روح الله إنك تحيي الموتى، قال: نعم، بإذن الله...وقيل: وتبرىء الأكمة ،قال: نعم، بإذن الله...وقيل: فما دواء الحمق ؟ قال : هذا الذي أعياني…!؟ وقد قال جعفر بن محمد: الأدب عند الأحمق كالماء في أصول الحنظل كلما ازداد رياً زاد مرارة .
وقد رأى البعض أن الحمق شر من الرعونة. فقد قال المأمون: تدرون ما جرى بيني وبين أمير المؤمنين هارون الرشيد ؟ كان لي إليه ذنب، فدخلت مسلماً عليه فقال: أغرب يا أحمق… فانصرفت مغضباً ولم أدخل إليه أياماً ، فكتب إلي رقعة : ليت شعري وقد تمادى بك الهجر ،أمنك التفريط أم كان مني ؟ إن تكن خنتنا فعنك عفا الله ،وإن كنت خنتكم فاعف عني. فسرت إليه فقال : إن كان الذنب لنا فقد استغفرناك ،وإن كان لك فقد غفرناه… فقلت له: قلت لي : يا أحمق ، ولو قلت لي: يا أرعن كان أسهل علي...فقال: ما الفرق بينهما ؟ قلت له : الرعونة تتولد عند النساء فتلحق الرجل من طول صحبتهن فإذا فارقهن وصاحب فحول الرجال زالت عنه ، وأما الحمق فإنه غريزة .
وأنشد بعض الحكماء:
وعلاج الأبدان أيسر خطبــاً حين تعتل مـن علاج العقـول
وقد أمعن الإخباريون العرب في ذكر اختلاف الناس في الحمق. إذ أشار بعضهم إلى أنّ الحمق فساد في العقل، أو في الذهن ، و»ما كان موضوعاً في أصل الجوهر فهو غريزة لا ينفعها التأديب وإنما ينتفع بالرياضة والتأديب من أصل جوهره سليم فتدفع الرياضة العوارض المفسدة». وقالوا إن الناس يتفاوتون في العقل وجوهره ومقدار ما أعطوا منه فلهذا يتفاوت الحمق. وقد قيل لإبراهيم النظام: ما حد الحمق ؟ فقال: سألتني عن ما ليس له حد. وقد تلا عمر هذه الآية: ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) (الانفطار : 6 ). وقال: الحمق يا رب.
وقد قيل أيضا أنّ كل إنسان وفيه حمقه. فقد قال علي رضي الله عنه: ليس من أحد إلا وفيه حمقة فيها يعيش. وقال أبو الدرداء: كلنا أحمق في ذات الله. وقال وهب بن منبه: خلق الله آدم أحمق ولولا ذلك ما هناه العيش. وعن مطرف قال: لو حلفت لرجوت أن أبر أنه ليس أحد من الناس إلا وهو أحمق فيما بينه وبين الله عز وجل… وكان يقول: ما أحد من الناس إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه عز وجل غير أن بعض الحمق أهون من بعض …وعنه قال : عقول الناس على قدر زمانهم …وكان يقول : هم الناس والنسناس وأرى أناساً غمسوا في ماء الناس. وقال سفيان الثوري: خلق الإنسان أحمق لكي ينتفع بالعيش. وأنشد بعضهم:
لعمرك ما شيءٌ يفوتك نيلــه بغبنٍ ولكن في العقول التغابـن
أعاذنا الله وإيّاكم من الحمق، كي لا يذكرنا أحد بمأثور العرب:
لكلّ داءٍ دواءٌ يستطبّ به إلّا الحماقة أعيت مَن يداويها