كتبنا كثيراً عن الدولة ونظرية الدولة، وفي وقت سابق لم يكن القارئ بشكل عام يستوعب مفهوم الدولة على الوجه الأمثل، والحقيقة أنه مفهوم به كثير من التجريد، فالدولة شيء أكبر كثيراً من تجلياتها الظاهرة، الدولة ليست مجموعة من المباني والنصوص والضرائب، ولكنها روح في الأساس تترجم نفسها من خلال أحد الشعوب في محاولة مستمرة وحثيثة للعيش المشترك في ظل الأمن والسلام، وفي ظروف حرجة يمكن تلمس لحم الدولة وعظامها وأعصابها، كما هو الحال في اللحظة الراهنة.
الحكومة تمثل الذراع التنفيذي للدولة، ولكن وراءها منظومة متكاملة من المؤسسات، في مقدمتها مؤسسة العرش التي أظهرت استجابة مسؤولة ضمن المنظومة الدستورية، وأقرت في لحظة صعبة من تاريخنا الوطني تفعيل قانون الدفاع الوطني، وأتاحت الفرصة لتفعيل العلاقة الصحية بين السلطات التي تعمل تحت مظلة مرجعيتها، فالقانون وطريقة إعلانه والتوجيه الملكي بتطبيقه في الحدود اللازمة لمواجهة الأزمة أتى ليظهر جانباً مهماً من منهجية المؤسسة الأعلى في الأردن، وكان صريحاً هذه المرة، بعد أن مارسته طويلاً في أزمات الإقليم وقضايا المقدسات الإسلامية والمسيحية، والموقف من الحرب على الإرهاب وغيرها من المفاصل دون الالتفات في كثير من الأحيان إلى التفاصيل السياسية التي غذت المجالس والصالونات السياسية.
الجيش والقوى الأمنية أيضاً حضرت بكامل مسؤوليتها، ودون مزاحمة لأحد، وبكثير من الحذر في تصريحات قادتها ليؤكدوا على تماسك وتجانس الدولة في ظروف عصيبة، وبدت شريكاً في قيادة المجتمع وتوجيهه بإدراك لظروف القلق الذي يعيشه المدنيون، وتعبر عنه ثقافتهم.
الحكومة أدت المطلوب بطريقة انتزعت حتى اعجاب معارضيها، مع تميز واضح لأبناء المؤسسات ذات الخبرة العميقة مثل وزيري الصحة والإعلام، ولم تماطل الحكومة في تنفيذ القرارات الصعبة والمكلفة، وتصرفت بمسؤولية في ظل الإمكانيات المتاحة، وتحت التوجيه بالواقعية القصوى، فالدروس التي تتوارد حول العالم تؤكد على ضرورة العمل على البيت الداخلي قبل أي شيء.
وضعت الأردن إمكانياتها المادية البسيطة وأقصى إمكانياتها البشرية الهائلة لتقدم نموذجاً يتحدث عنه العالم، وسيكون الأردنيون على هذه الأرض الطيبة المفاجأة للجميع، وخاصة أصحاب نظريات الدولة الانتقالية أو العازلة، والمنبهرين بالتجارب الأخرى ومشجعي أندية المزاودات السياسية، وأصحاب الهوى في الأيديولوجيا والجغرافيا السياسية.
هذه ليست فرصة للمناكفات وتصفية الحسابات، خاصة والأردنيون يعيشون اليوم تجسيداً حقيقياً لما أعلنوه بأنهم ينتوون دخول التاريخ لا الخروج من الجغرافيا، و الدولة هي ما يبقى وما يجب أن نحافظ عليه، فالجميع عابرون ويبقى الأردن الوطن والناس والأرض فوق الجميع، والدولة هي الشجرة التي تظلل كل هذه التفاعلات، هي الإناء الذي ينضح اليوم بأفضل مما فيه، وذلك يؤكد استقرارها وعمقها وسلامتها، وسينصرف المنظرون والمتهافتون والمتفلسفون الانتهازيون منهم والمثاليون، وسيتذكر الأردنيون دروساً مهمة وعميقة ستبقى بعد أن نتجاوز هذه الأزمة، التي ولا بد أن نتجاوزها بأفكار وخبرات مختلفة.

سامح المحاريق يكتب: الدولة ومؤسساتها.. روح الوطن والمجتمع
المملكة اليوم -