تصادف أن قرأت خلال قراءتى لرواية “في كل أسبوع يوم جمعة” لإبراهيم عبدالمجيد، قصة قصيرة بعنوان “بريد السما” لمحسن خضر، نشرت في الملحق الأدبي لأهرام الجمعة منذ أسابيع قليلة.
وأدهشني أن العملين يتناولان مسألة التواصل الإنساني بين الناس، التي أصبحت معضلة كبرى في زماننا المعاصر، المكهرب بتيارات الشبكة العنكبوتية والأقمار الصناعية والهواتف المحمولة.
المثير والجميل في العملين (الرواية والقصة) هو كيفية تناول كل منهما بصدق طبيعي ودونما أدنى افتعال، لوسيلة إحياء ذلك التواصل المفتقد بين البني آدمين، بل والإصرار على ذلك بشدة مهما بلغت المصاعب والأهوال. فرواية إبراهيم عبدالمجيد تؤكد أن التواصل ممكن ومتاح وميسر وقليل التكلفة لكل من لم يفته قطار الكمبيوتر، بغض النظر عن عمره. صحيح أنه تواصل غير حميمي لأنه يتم إلكترونيا عبر الفضاء، حيث يمكن لشيخ في السبعين مخاطبة ابنه الشاب المقيم بأميركا بالصوت من خلال المايك، أو بالمكاتبة من خلال برنامج الشات، (وترجمتها العربية هي الثرثرة)، وذلك بمجرد أن يضغط على زر أو على الماوس، كما أنه يمكنه أن يراه وهو يخاطبه في نفس اللحظة لو انضمت كاميرا صغيرة في حجم ثلث قبضة اليد إلى مجموعة الأسلاك العديدة التي تربط بين تلك الأشياء. وبنفس الكيفية يمكن لشاب في أدنى أرجاء الأرض أن يتحاور مع فتاة في أقصى أرجائها فتلتقي الثقافات وتتعانق، وربما تسفر عن نتيجة مثمرة للطرفين، وقفا على طبيعة الأهداف المشتركة أو المختلفة حول مبدأ التواصل من أساسه.
وربما لا يكون الأمر كذلك على الإطلاق، حتى أنه قد يسفر – وباستخدام نفس التكنولوجيا ونفس البساطة – عن جريمة قتل أو سرقة رصيد بنكي أو اقتحام أسرار مؤسسة عسكرية أو صناعية.
ولما كان برنامج الثرثرة أو الشات، يسمح بتحاور عدد كبير من الناس قد لا يعرف أحدهم الآخر على الإطلاق، فإن مساحة البوح الإنساني المتحرر من كل قيد ممكن تتسع لدرجة مذهلة، قد تكون بمثابة علاج نفسي طبيعي للمتحدث أو المتحدثة، وقد تجلب عليهما كارثة لو تورط – أو تورطت – في علاقة غير مأمونة الجانب، وهذا ما تعرضت رواية إبراهيم عبدالمجيد لمعظمه في ثنايا أحداثها التي جمعت بين السحاقية، والفيلسوف، والمتطرف الديني، والعاهرة، والأستاذ الجامعي، والفتاة الباحثة عن زوج على خلق، والشاب الثائر على قمع حريته مهما كان الثمن، والقاتلة المحترفة التي تستدرج ضحاياها من الرجال بمساعدة زوجها المونجول، والسائق المكافح الذي يعمل على ميكروباس متهالك، والصحافية التي تبتاع الحشيش من الساحل الشمالي حيث تنوى البقاء، ثم يتغير مزاجها المرفه فجأة فتعود إلى الإسكندرية لتنزل بأحد فنادقها الفخمة لتلتقى بالسحاقية وتتعرف على تجربتها عمليا، والمشتاقة التي تعد من سيدخل دماغها بأنه سيراها كما ولدتها أمها.
ومن خلال هذا التجمع البشري المتناقض نقرأ حكايات حب لم تكتمل، بلغت إحداها ذروة الخسة والنذالة من الحبيب الذي هرب ليلة زفافه إلى الخارج مع أجنبية هيأت له سبيلا أفضل للحياة فباع حبيبته. وقصص زواج تمت بنجاح عبر الإنترنت، وقصص شباب هربوا من مصر بطرق غير شرعية بحثا عن فرصة عمل بالخارج فتعرضوا للموت غرقا حيث تموت الأم وينتحر الأب.
إنها ثرثرة جماعية غير مقننة، ولكنها عرضت علينا الدنيا بجمالها وقبحها في صورة روائية.
وأعتقد أن إبراهيم عبدالمجيد كان أسبق الروائيين المصريين إلى تقديم عمل روائي ضخم شديد الإثارة، يقوم بنيانه الأساسي على استخدام أحدث تكنولوجيا الاتصالات الغربية، والتي تؤكد عمق الهوة بيننا وبين الغرب المتقدم بسرعة الصاروخ دون لحظة توقف، بينما نحن مازلنا نرتد إلى الماضي حتى في استخدام هذه المنجزات، حين يظهر في برنامج الشات من يدافع عن النقاب ويحلل ويحرم فيما يشاء وكيف يشاء، لمجرد أنه أطال لحيته وحفظ بعض العبارات الدينية الوهابية التي انفصلت بشكلها ومضمونها كل الانفصال عن العصر.
ولو لم يكن عبدالمجيد ملما إلماما كافيا باستخدام هذه التكنولوجيا – رغم انتمائه لجيلنا الذي دخل مرحلة الشيخوخة – لما استطاع كتابة هذه الرواية. والذي يؤكد لنا ذلك هو وجوده باستمرار على موقع الفيس بوك الشهير، وغيره من المواقع الأدبية الإلكترونية الأخرى، والتي عقدت بينه وبين أجيال عديدة من الشباب صداقات مثمرة، تم من خلالها تبادل الخبرات والتواصل بين الأجيال.
وقد برع إبراهيم عبدالمجيد في انتهاز فرصة وجود هذا التجمع الإنساني الضخم، والمتواصل إلكترونيا، بقلب أو بلا قلب، ليتعرض إلى كل ما يعانى منه مجتمعنا من تسلط ذكوري وقهر بوليسي وتخلف اقتصادي وسياسي وانهيار أخلاقي وفساد زاد عن الحد، بحيث أدى ذلك كله إلى تراجع مصري عام في معظم مجالات الحياة.
وكان تعرض عبدالمجيد لتلك القضايا الخطيرة – بخبرة الروائي المتمرس – ناعما طبيعيا خاليا من المباشرة والعصبية الزاعقة الخارجة عن نطاق الفن الجميل، قائما بالدرجة الأولى على حب شديد لهذا الوطن الجميل، مهما تكاتفت ضده أسباب القبح التي يتفنن في صنعها المفسدون.
إذن فالقول بأن التواصل الإلكتروني بين الناس شيء كريه ولا إنساني ومخاطره كبيرة، يعد قولا منافيا للموضوعية، رغم أنه قد يكون بالفعل كذلك في بعض الأحيان. ولكن الأمر يتوقف بالدرجة الأولى على حسن المقصد في استخدام هذا النوع المعاصر من وسائل التواصل الإنساني، عبر الشبكة العنكبوتية، والتي يمكنها أن تنجز للبشر في كسر من الثانية ما كان يتم إنجازه منذ عدة سنوات في عدة أسابيع.
غير أن هناك قولا آخر عن فقدان ذلك التواصل لجوهره الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم على الرؤية والتلامس بالمصافحة والرؤية المتبادلة للابتسامة والدمعة، وسماع صوت الآهة النابعة من القلب لتصب في القلب الآخر وجها لوجه، وتبادل الأحضان والقبلات وكل وسائل التعبير الحية عن الحب والتعاطف والتواصل الإنساني الحقيقي بأبعاده الحميمية كافة بين الأهل والأصدقاء والأحباء.
وفي قصة محسن خضر، كانت وسيلة التواصل مشبك غسيل أزرق مقفول على رسالة ورقية مكتوبة بخط اليد، تلقى عليه من دار المسنين كل يوم من نزيلة مجهولة لا تفصح عن نفسها على الطبيعة، وإنما من خلال فضفضاتها الإنسانية لعابر ليل مجهول تنتظر يوميا موعد عبوره لتلقي إليه بهمومها وآمالها وذكرياتها، بعد أن انتهى بها مطاف الحياة إلى هذا النزل البارد، وقد قتل ابنها الشاب في حادث إرهابي، ثم مات أبوه عقب ذلك حزنا عليه، ثم هاجرت ابنتها مع حبيبها إلى أقاصي الدنيا، وصارت تبخل عليها حتى بمكالمة تليفونية لتطمئن على مجرد وجودها على قيد الحياة.
لقد كانت هذه الشخصية – التي تتسول اليوم إنسانا مجهولا يستمع إليها ويتواصل معها إنسانيا – في يوم من الأيام ملأ السمع والبصر، بحكم موقعها الإعلامى والثقافي الهام. لقد كانت زميلة وصديقة للإعلامية المحبوبة الرقيقة الراحلة سلوى حجازي شهيدة الطائرة الليبية المنفجرة. إن عابر السبيل هذا يعد بالنسبة لها كابنها، والمداد الذي تكتب به كلماتها إليه يكاد يكون مغموسا بالدم الذي يجرى في شرايينها. تلك الكلمات غير المكهربة بتيارات النت وهواء الفضائيات، والتي تكشف ببراءة شديدة عن طبيعة الحياة بغدرها وعطائها.
إن هذه الرسائل التي تسقط من السماء على كتف عابر الليل، تعد بمثابة وثائق إنسانية غاية في الرقة، مترعة بالشجن، مصاغة بلغة شاعرية تنم عن مستوى ثقافي رفيع لكاتبته، التي كانت يوما في ذروة الشهرة ثم أصبحت بحكم قانون الحياة منسية مهجورة مهملة، لا تجد من يتواصل مع مشاعرها ويستمع إليها ولو لم ينطق بكلمة واحدة. رسائلها الحية كانت تقطر فنا ومعرفة وحبا وتعاطفا غنسانيا مجردا من كل الأشكال والقوانين التي قد تحتوي ذلك التعاطف، أو تضعه في إطار من العرف أو الاتفاق أو القانون. إنه الإنسان، ذلك المخلوق الجميل المسكين المحكوم عليه بانتظار الموت، ورغم ذلك فهو يبحث عن مواطن الجمال في الدنيا، ويتوهم السعادة انتظارا للحظة الحاسمة.
تقول له نزيلة دار المسنين في رسائلها:
“عزيزى.. راقبتك مرارا في نفس المكان ونفس التوقيت.. بدا كتفاك وكأنك تحمل جبلا فوقهما ما فات فات, وما مات مات, هل نقطف ثمارا لم نبذر بذرتها؟
هل – نطير بأجنحة ليست لنا بل ثبتها الآخرون في أجسادنا.. ما رأيك؟ لا أرتجي منك سوى الإصغاء! لا أجد من أتحدث معه! مزق رسائلي المتطفلة بعد قراءتها، لا قبلها من فضلك.”
وكلما توالت الرسائل ازدادت قوة الحبل السرى الواصل بين بوحها الصادق وتعاطفه الأكثر صدقا، رغم فارق العمر والشهرة. والدليل على هذا الصدق المتبادل أنه عندما تنقطع الرسائل فجأة ينتابه قلق شديد ويظل يجوب الشارع رائحا غاديا بانتظار المشبك يلقى على كتفه. كانت متوعكة. تنفس الصعداء حين تلقى رسالة ما بعد الانقطاع. حدثته عن قلبها العليل، فانقبض قلبه لأجلها، الأمر الذي قد يحدث وقد لا يحدث في تواصل الشات، أما هنا فلا بد من رد فعل مماثل، فالتقارب الإنساني يمكن لمسه وتذوقه حين تقول له في إحدى رسائلها: “يغمرني امتنان كبير تجاهك. أبصرك متخفية تلتقط رسائلي بانتظام”.
هنا احتكاك إنساني حقيقي رغم البعد، فهي تراه بشحمه ولحمه وإن لم يرها هو، وفي ذلك اختلاف كبير عن الرؤية من خلال الكاميرا بالطبع.
“يبدو أن الأمر يروق لك لانتظامك اليومي في الحضور بنفس التوقيت. هل يدهشك أنني كتبت نعيي وأعطيته للأخصائي الاجتماعي بالدار، ونقدته مبلغا كبيرا لنشره في الأهرام بعد وفاتى؟”
وبعد أكثر من ثلاثين رسالة جاءت فترة انقطاع جديدة طالت هذه المرة، حتى قرأ نعيها في الجريدة، وكانت المرة الأولى التي يرى فيها صورتها.
ورغم ما يبدو من تشابه بين حالة الشات المعاصر عن بعد عبر الإنترنت، وحالة الحوار الصامت عن قرب عبر المسافة بين الأرض والطابق الرابع أو الخامس من مبنى المسنين، إلا أن هناك رابطة تبدو كما لو كانت رابطة دم حقيقية بين الطرفين في الحالة الثانية، حتى أن تأثر عابر الليل بوفاة محدثته أفقده الحماس للاندفاع وراء مشروع حياته الذي كان يشغل باله قبل أن يتواصل معها.
وعودة إلى جوهر الموضوع، نتساءل هل يحق للبعض أن يتهموا وسيلة الاتصال الحديثة الرائعة بأنها كانت سببا في التباعد الجسماني بين الأهل والأصدقاء، وأنها أفقدت التواصل الإنساني روحه وحيويته؟ أم أن تلك الوسيلة قربت بين الناس أكثر من ذي قبل، ويسرت عليهم سبل الاتصال وسرعة إنجاز المصالح، ووفرت عليهم المال والوقت والجهد؟
لقد كان ابن أحد أصدقائي يعمل محاميا في مؤسسة ليبية قانونية يمتلكها محام كبير. كان هذا الليبي ينتهز فرصة تكالب الشباب المصريين عليه، فيعينهم ويعطيهم أجرا جيدا وسكنا مجانيا، لكنه كان يرفض استخراج إقامة قانونية لهم لأنها تكلفه كثيرا كما كان يدعي. ومن خلال النت اتصل صديقي بابنه وحذره من البقاء هناك بصفة غير قانونية، فربما صدر قانون فجائي- كالمعتاد – بسجن المخالفين، بحيث تتحول المسألة إلى مأساة، وربما يعجز الأب عن استعادة ابنه، كما حدث لأبنائنا كثيرا من قبل في أكثر من دولة عربية.
وفي اللحظة التي كان صديقي يتحاور مع ابنه في برنامج الشات حول هذه المشكلة دخل عليهما صديق للأب، يعمل في شركة دولية بإحدى الدول الأوروبية، وأيد الصديق وجهة نظر صديقه بضرورة عودة الابن تجنبا للمخاطرة مهما كانت المغريات المالية. وأضاف قائلا إن للشركة الأوروبية التي يعمل بها فرعا عربيا في ليبيا، مقره لا يبعد كثيرا عن مقر المؤسسة القانونية التي يعمل بها الشاب. فما كان من الابن إلا أن تقدم بمؤهلاته إلى هذه الشركة وقُبل للعمل بها، وخلال أيام قلائل كان ينعم بإقامة قانونية وراتب أكبر وسكن أفضل وطمأنينة له ولوالده.
من كان يصدق منذ زمننا الماضي البعيد أنه سيأتي يوم يلتقي فيه الأب في مصر مع الابن في ليبيا مع الصديق في أوروبا عبر شاشة زجاجية صغيرة، ليتم في لحظة تغيير مصائر وأقدار وأحوال، بفضل هذه الشبكة الساحرة المستطيلة. من كان يصدق أن الأب المغترب بعيدا عن وطنه وأسرته لأجل لقمة العيش، يستطيع عبر أسطوانة مدمجة تسمى السى دي، أو عبر رسالة بريد إلكترونية، أن يرى فيلما مصورا (فيديو) كاملا لولادة طفله منذ لحظة خروجه إلى الحياة حتى يوم الاحتفال بمرور أسبوع على مولده، كما لو كان موجودا مع أسرته في نفس الزمن؟
إنني أرى هذه الشبكة كما أرى الدنيا تماما، بكل تناقضاتها، وبكل ما تفعله بنا وما نفعله بنا. إنني أرى أن هناك معادلة سحرية يستطيع كل منا التوصل إليها بأسلوبه الخاص للتعامل بنجاح معها كما يتعامل مع الدنيا بحيث يلعق من عسلها ويتحاشى كدوراتها قدر استطاعته، بمعنى أن يستخدمها، لا أن يدعها تستخدمه. أما الأقدار فلا يد لأحد فيها.
وأعود إلى القصة والرواية لأقول إن بعض أبطال الشات الإلكتروني في رواية إبراهيم عبدالمجيد تم بينهما لقاء حقيقي، بمعنى أنهما التقيا وجها لوجه، بغض النظر عن نتائج اللقاء المتوقف بالطبع على النوايا. وكان الأمر ممكنا لو قرر عابر الليل في قصة محسن خضر، أن يصعد إلى الطابق الرابع أو الخامس ليلتقي وجها بوجه مع الإعلامية المتقاعدة في دار المسنين، والتي لا بد أنها ستكون أكثر فرحة وسعادة برؤيته من اكتفائها ورضاها بمجرد تلقيه رسائلها وقراءتها دون أن يلتقيا.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: سعيد سالم