على مدى عقود مضت من عمر الدولة العربية الوطنية، مُررت عمليات تحايل عديدة في اصطناع الشرعية السياسية والقانونية، وإسباغ النظم الحاكمة بها. فهناك عدد من الدول اعتمدت على شرعية الريع المتأتي من الموارد الطبيعية الضخمة، أو على اصطناع فكرة خيالية حول الشرعية الثورية. كما حاول بعض الدول الارتكاز إلى تضخيم عدد من الإنجازات والاستناد إليها، فيما الكثير منها مزيف ولا وجود له إلا في وسائل إعلام هذه الدول. وجميع هذه المحاولات كانت تخفي أزمة الشرعية المتمثلة في الدولة في ثلاثة مظاهر، وهي: شرعية نظام الحكم وآلية تصعيد النخب، وشرعية الدساتير والقوانين، وشرعية مؤسسات الدولة وسلوكها.
الشرعية تعبّر عن مدى إقرار الأفراد بسلطة ومسؤولية حكومة مركزية وحيدة، تحتكر مختلف أشكال الإكراه المشروع؛ أي الضبط السياسي. وأزمة الشرعية لها أكثر من مدخل، ومرتبطة بأزمات أخرى، أهمها المشاركة والمواطنة. وقد بدت أزمة الشرعية بعمق في نمط تصعيد نخب الدولة، وفي علاقة الدولة بالمجتمع، ما طرح سؤال العقد الاجتماعي من جديد. وصاحب هذا وذاك تصدعٌ ثقافيٌ حادٌ في الصراع على الشرعية، بينما تنامت بسرعة أنماط ثقافة الحمد والشكر والولاءات المفرغة من المضمون، وازداد تصعيد أنماط من التعبيرات الثقافية التي بالغت في تعتيم المشهد.
لقد شجع صعود قوة الإسلام السياسي، خلال العقود الثلاثة الماضية، على منح خطاب نزع الشرعية عن الدولة الوطنية هوية خاصة؛ كما كان سابقا في خطاب التيارات القومية التي حاولت في مرحلة ازدهارها نزع الشرعية عن “الدولة الوطنية” وفق رؤيتها للدولة القومية. وتتضح هذه الحالة في العالم العربي بعد مرحلة الثورات والتحولات التي تذهب فيها الأوضاع نحو تكريس “استقرار الفوضى”.
إن الممعن في الغياب في عمر البحث في شرعية الدولة الوطنية، هو المجتمع. وإن الشرعية الفعلية للدولة، وامتدادها في نظامها السياسي والدستوري والقانوني والمؤسساتي، تُمنح من قبل المجتمعات، وليس من شكل النظام السياسي وآلياته ووسائله. وهذه الشرعية هي إحدى تجليات العقد الاجتماعي، وهي الاختبار الحقيقي لصلابة هذا العقد وقوته، وقدرته على الاستمرار.
صورة الدولة في إدراك المجتمعات العربية، مجسّدة في الغالب الأعم، في الأمن والجيش والمحاكم والسجون وعدم احترام القوانين من جهة أولى؛ والفساد وغياب العدالة الاجتماعية، من جهة ثانية. ما يجعل الدولة تمثل عبئاً ثقيلا على حياة الناس، بدلا من أن تكون (الدولة) أداة لتسهيل حياة الناس والارتقاء بنوعيتها. إذ تتراجع فكرة الدولة لصالح رسوخ وتضخم فكرة السلطة، الأمر الذي جعل نزع الشرعية ينتقل من النظام السياسي إلى نزع الشرعية عن الدولة، بل ويتعدى ذلك إلى رفض فكرة الدولة بشكلها وهويتها القائمين. ونلاحظ أن معظم المجتمعات العربية لا تفرق بين الحكومة والدولة؛ حيث تبرز فكرة ضعف الولاء السياسي والاجتماعي للدولة.
وفي الوقت الذي تجلت فيه أزمة الشرعية في التحولات العربية الراهنة بصور متناقضة؛ إذ كان شعار “إسقاط النظام” الذي رددته الجماهير العربية انتصارا لفكرة الدولة ولو شكلياً، فإن ما جربته المجتمعات العربية في أتون هذه التحولات من ولاءات طائفية ومذهبية وجهوية، أثبت -من جهة أخرى- ضعف فكرة الدولة الوطنية في الوعي العربي المعاصر، وأنها لا تحتل مكانة لائقة في دوائر الولاء والانتماء لمعظم هذه المجتمعات؛ أي فشل الدولة الوطنية نفسها في خلق الاندماج الاجتماعي والتكامل السياسي. بمعنى أننا اليوم في لحظة انكشاف غير مسبوقة، عنوانها نهاية الشرعيات التقليدية.